المعرفة والفهم

عندما تدخل إلى غرفة مليئة بالأغراض، والتفاصيل، والأشكال، والألوان؛ ولكنها مظلمة؛ فإنّك لا تستطيع أن ترى شيئاً، ولكن عند تشغيل ضوء خفيف في الغرفة فإنّك ستبدأ برؤية بعض الأشياء، ولكنك لا تكون قادراً على رؤية كل شيء، وكل التفاصيل، وفهم طبيعة الأشياء الموجودة فيها، وعلاقتها ببعضها البعض، وكلما زادت نسبة الضوء، زادت قدرتك على رؤية مزيد من الأشياء، ومزيد من التفاصيل، وبزيادة الضوء أكثر فأكثر، تصبح قادراً على إدراك جميع الأشياء الموجودة، وألوانها، وأشكالها، ثم تستطيع معرفة إذا ما كان هناك علاقة ما بينها، أو إنها موضوعة بطريقة معينة، ثم تستطيع أن تستكشف كيف تم تثبيت وتركيب مافي الغرفة، وتغوص في التفاصيل هنا وهناك.

 

هذه هي قصتنا مع التنزيل الحكيم، فكلما زدنا علماً ومعرفة، كلما كنا قادرين على فهم ما جاء فيه بشكل أفضل ومتوافق مع تطورنا الإنساني، فـ الله وضع المعرفة وقوانين الكون والتشريعات والعقوبات والمكافآت والحلول ضمنه بصلاحية لكل زمان ومكان ورغم أنه ثابت في النص، ولكن فهمه متغير تبعاً لما نملكه من علوم ومعرفة، وهنا مكمن الإعجاز الحقيقي للمصحف الشريف، لذلك لا يمكننا الاعتماد على فهم من قرأه وفهمه قبل مئات السنين وتطبيقه علينا اليوم كما لا يمكننا أن نقول أنهم على خطأ، بل هم اجتهدوا بما امتلكوا من أدوات المعرفة، ولكن نظرتهم وفهمهم كانوا قاصرين عن فهم كل التفاصيل والمعاني، ولا يمكن قبول ماقالوه والتعامل معه اليوم، فنحن اليوم نمتلك أدوات أكثر تطوراً ويمكننا فهم مالم يستطيعو فهمه في الماضي، ونستطيع أن نربط الأمور ببعضها من خلال العلوم الحديثة التي نعرفها، ولم يكونوا قادرين على ذلك وأدواتنا المعرفية اليوم ستكون قاصرة عن فهمه في المستقبل، لذلك مع تطور معرفتنا -أي كزيادة الضوء في المثال أعلاه- سنستطيع أن نفهم أكثر.

 

 وينطبق ذلك على مثال آخر، فقطرة الدم كانت منذ ألف عام مجرد نقطة سائل أحمر، ولكن مع زيادة العلم وتطوُّر أدواته، بدأت هذه القطرة نفسها تعني لنا الكثير، وأصبحت تقدم لنا الكثير من المعلومات لأننا أصبحنا قادرين على تحليلها بما نملك من أدوات، واليوم قطرة من دم إنسان تعطينا معلومات هائلة عنه، وبتطور العلم وأدواته أكثر فأكثر سنستطيع معرفة المزيد من خلال قطرة الدم نفسها، وهذا لا يعني أن هذه المعلومات لم تكن موجودة في قطرة الدم منذ ألف عام، بل كانت موجودة ولكن أهل ذلك الزمان لم يملكوا من الأدوات ما يمكنّهم من تحليلها.

 

وكذلك هو عالم الكائنات المجهرية، فكان كلما تطورت دقة المجهر الذي يصنعه الإنسان، يكتشف الطبيعة من حوله، ويعلم بأنّه محاط بملايين المخلوقات المجهرية التي بدأ ومازال يدرسها ويفهمها، ويتعامل معها ولا يعني ذلك أنّ تلك الكائنات لم تكن موجودة قبل اختراع المجهر ولكن تطور معرفة الإنسان -زيادة الضوء- جعلته قادراً على اكتشاف الطبيعة من حوله لذلك يجب أن نسعَ دائماً لتطوير معارفنا لزيادة فهمنا لكتاب الله وأسراره وعدم الوقوف عند فهم وتفسير من سبقونا بمئات السنين. جزاهم الله خيراً، فعلوا ما كان باستطاعتهم، ولكن نتائجهم وفهمهم أصبحوا غير صالحين لزماننا تماماً كعدم صلاحية أن تذهب إلى طبيب لتحليل عينة من دمك ويستخدم في ذلك جهازاً عمره مئة عام، فمن المؤكد أنك لن تقبل النتيجة.

 

إن الدين يحتل مكانةً كبيرة في مجتمعنا ويدخل في جميع تفاصيله والذي حدث أنه تم تقديس الكثير من التفاسير والأقوال والمعلومات التي قالها علماء قبل مئات السنين وزاد من قدسيتها كثرة تكرارها على مدى السنين حتى أصبح بعضها بديهيات دينية غير قابلة حتى للنقاش مع أنها خطأ أو غير مكتملة وتتسبب في اشكاليات مجتمعية كبيرة في وقتنا الراهن فالتقدم الذي يحصل في مختلف المجلات وفي جميع أنحاء العالم لايناقض ماجاء في التنزيل الحكيم بل على العكس. والله طلب منّا جميعاً -وليس من ما يسمى رجال الدين فقط- التدبر والتفكر لفهم كتابه ورسالته إلينا، وهذا الطلب ليس في الماضي بل هو طلب مني ومنك وفي كل زمان ومكان. ويجب أن نعمل معاً لاكتشاف كنوز هذا الكتاب ونشرها لنساهم في وقف هذا التدهور الذي نعيشه.

مقالات أخرى يمكن أن تهمك

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

اكتشاف المزيد من فادي الشلبي

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading