
قام أحد الباحثين في علم النفس ويدعى روبرت زايونك بإجراء تجربة مثيرة للاهتمام وذلك لإثبات أحد النظريات في علم النفس. فقد قام هذا الباحث مع مجموعة من مساعديه بتجميع بعض الكلمات من اللغة التركية مع تغيير ترتيب الأحرف بحيث تصبح هذه الكلمات غير موجودة في أي لغة وبلا أي معنى. ثم قاموا بحجز مربع الإعلانات في المجلة الأسبوعية التي تصدر في كل من جامعة ميتشيغان الخاصة وجامعة ميتشيغان الحكومية لعدة أسابيع، وفي الجامعة الأولى قام فريق الباحثين بنشر هذه الكلمات ضمن المربع الإعلاني على الصفحة الأولى للمجلة بتواتر مختلف حيث أن كلمة من هذه الكلمات ظهرت مرة واحدة فقط والباقي ظهر مرتين – خمس مرات – عشر مرات – خمسة وعشرون مرة على التوالي. أما في الجامعة الأخرى فقد تم عكس تواتر ظهور هذه الكلمات، فالكلمة التي ظهرت مرة واحدة في الجامعة الأولى ظهرت خمسة وعشرين مرة في الثانية وهكذا.
وعندما تساءل طلاب الجامعتين عن سرّ ظهور هذه الكلمات في مربع الإعلانات قِيلَ لهم بأن هذا جزءٌ من التسويق الإعلاني لمنتج ما. وبعد انقضاء عدة أسابيع على التجربة، أرسل فريق الباحثين استبياناً لطلاب الجامعتين يحتوي على قائمة الكلمات نفسها وطلبوا منهم وضع انطباعهم عن هذه الكلمات بتوصيف “شيء جيد” أو “شيء سيء”. وكانت النتيجة مُذهلة حيث حصلت الكلمات التي ظهرت بشكل أكبر على توصيف “شيء جيد” وتلك التي ظهرت مرة واحدة فقط على أنها “شيء سيء”. وانطبق ذلك على الجامعتين مع أن الكلمة التي ظهرت مرة واحدة في الجامعة الأولى وحصلت على تقييم “سيء” هي نفسها التي ظهرت أكثر في الجامعة الثانية وحصلت على توصيف “جيد”. وللتأكد من نتائج هذه التجربة قام الباحثون بإجراء نفس التجربة في عدة دول من العالم وباستخدام لغات مختلفة وحصلوا على نفس النتائج وبالتالي فإن الوعي الجمعي يمكن أن يقتنع بصحة معلومة ما لمجرد تكرارها لبضع مرات وعلى مر الوقت، فما بالكم بالجمل والمقولات التي ظلت تتكرر لعشرات السنين والتي لا نعرف لها أصل. كما ذهب الباحثون للقول بأن لرؤية الشيء عدة مرات تأثيراً كبيراً في محبتنا له واقتناعنا به.
أحببت أن أشارككم هذه المعلومة لأنه كان وما زال يسترعي انتباهي الكم الكبير من المقولات أو العبارات أو الأمثال والمعلومات التي يتم تداولها عبر فضاءات وسائل التواصل والتي لاحظت كيفية استخدامها والاعتماد عليها أحياناً في تفسير أمر ما أو اتخاذ موقف ما من شخص أو من قضية معينة دون الانتباه إلى أن النسبة الأكبر منها قد تحمل معلومات خاطئة أو نُسبت إلى أشخاص لم يقولوها أو أنه تم تفسير كلمات فيها لتُناسب مواقف أو آراء معينة فحسب. حيث باتت هذه المعلومات جزءاً من الموروث الذي نعتمد عليه والذي هو أحد أساسيات مشاكلنا الحالية. وخلال جائحة كورونا (كوفيد-19)، تم ومازال يتم نشر أخبار ومعلومات زائفة ومضللة تنتشر كالنار في الهشيم ومايساعد في ذلك هو مشاركتها من قبل الناس دون التدقيق في صحة محتواها. وهذا ما حدا بشركات التواصل يتطبيق معايير إضافية صارمة لمراقبة ذلك.
والطامة الكبرى تكون في العبارات والأقوال ذات الطابع الديني وذلك لحساسيتها الشديدة وخصوصاً في مجتمعنا وتحمل تفاسير لأمور دينية ما أنزل الله بها من سلطان أدّت وما زالت تؤدي إلى الكثير من المشاكل في فهمنا للدين خصوصاً أن بعضها ينافي المبادئ الأساسية لأي دين. أضف إلى ذلك تَدَاول تلك العبارات المرتبطة بالمجال الصحي والتي يمكن أن تكون نتائجها خطيرة على من نحب بشكل مباشر ولكن تكرارها على مر السنين غيّب عن أذهاننا ضرورة أن نتساءل ما أصلها أو أن نفكر بمدى صحتها. وعلماء النفس يقولون أننا نقع في فخّ قبول مقولات ما لمجرد أننا تربّينا ونحن نسمعها ونسمع من حولنا يرددها دون التفكّر والتحقّق من معانيها، فتَعَوُدُنا عليها يوقف لدينا الرقابة العقلية على محتواها. والتبيّن أحد أهم الأوامر الإلهية التي وردت في جميع كتبه السماوية، وهو أيضاً أحد أهم الأركان التي يقوم عليها البحث العلمي.