إنّ البشرية مقبلة على واحدة من أعلى حالات التدمير الخلّاق وهو المصطلح الذي أوجده الباحث في الاقتصاد السياسي جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter، وهنا نذكر ما يقوله الكاتب والصحفي توماس فريدمان بأن زمن ما بعد الجائحة سيكون مدمر وخلّاق لأنه لم يسبق في تاريخ البشرية أن حصل الناس على أدوات ابتكار رخيصة وبرامج حاسوبية واستثمارات ضخمة لاختراع منتجات وخدمات جديدة للتحديات الكبيرة التي تواجه البشرية على الأصعدة الصحية والاجتماعية والبيئية والاقتصادية.
سنرى ظهور بعض الأشياء المذهلة، واختفاء بعض المؤسسات العريقة مثل الجامعات، وستتحول طبيعة العمل وأماكن العمل والقوى العاملة، وسيطال هذا التحول كل روضة ومدرسة وجامعة وشركة ومكتب بالإضافة للعمال والموظِّفين، ولن ينجو أحد من هذا التغيير.
ونظراً لاستمرار وتيرة التغيير التكنولوجي والرقمنة والعولمة في التسارع، يحدث شيئان في وقت واحد:
يترابط العالم أكثر من أيّ وقتٍ مضى (صحيحٌ أنّه قد تباطأت عولمة السلع والناس بسبب الوباء والسياسة، ولكن ارتفعت عولمة الخدمات)، وتتقلص دورة حياة المهارات بشكل مضطرد، مما يعني أن أي مهارة تمتلكها اليوم تصبح غير ذي فائدة بشكل أسرع وأسرع. لذلك يمكنك أن تتوقع أنّ أطفالك عندما يكبرون سيغيرون وظائفهم ومهنهم عدة مرات في حياتهم، مما يعني أنّ مسار حياتهم المهنية لن يتبع المسار التقليدي “تعلّم لتعمل” بل أصبح مسار “العمل- التعلم- العمل- التعلم- العمل- التعلم”.
تقول السيدة هيثر ماكجوان Heather E. McGowan وهي متحدثة دوليّة حول مستقبل العمل والتعليم:
“التعلُّم هو المعاش التقاعدي الجديد، والطريقة التي تخلق بها قيمتك المستقبلية كل يوم”. لذلك، سيكون الدور الأكثر أهميّة لمعلمي رياض الأطفال حتى نهاية التعليم الثانوي هو تزويد الشباب بالفضول وشغف التعلم ليكونوا متعلمين مدى الحياة ويشعرون بملكية مايتعلمونه.
و من الواضح أنّه لا يزال الجميع بحاجة إلى أساسيات قوية في القراءة والكتابة والرياضيات، ولكن في عالم سيغير فيه الواحد منا مِهَنَهُ عدة مرات، سيكون الدافع الذاتي ليكون متعلماً مدى الحياة أمراً بالغ الأهمية.
بالتوازي مع ذلك، يوضح رافي كومار Ravi Kumar وهو رئيس شركة الخدمات التقنية الهندية Infosys أنّ تسارع التحول الرقمي والعولمة يعمل بشكل مضطرد على تحويل المزيد من العمل إلى “وحدات نمطية” مقسّمة إلى حزم صغيرة ترعاها الشركات، وهو يزعم بأنّ الشركات ستصبح على نحو متزايد منصات تعمل على تجميع وتنظيم هذه الحزم النمطيّة لصنع المنتجات والخدمات.
ويضيف كومار أنّه سيتمّ في هذه العملية فصل العمل بشكل متزايد عن الشركات، وفصل الوظائف والعمل بشكل متزايد عن بعضها البعض، وسيتطلب بعضها قربك الفيزيائي في مكتب أو مصنع، وسيتم عمل البعض عن بعد، وبعضها سيكون مجرد جزء من مهمة يمكن تكريسها لأي شخص في أي مكان.
ومع تحوّل المزيد من العمل إلى وحدات رقمية/مرقمنة منفصلة عن مكتب أو مصنع، سيتمّكن العديد من المجموعات المتنوعة من الناس -أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية، والأقليّات والأمهات والآباء الذين يبقون في المنزل وذوي الإعاقة- من التنافس على ذلك من منازلهم.
وكلّ ذلك يلقي بظلاله على الأنظمة التعليمية، حيث يوضح كومار: “لقد بدأنا في توظيف العديد من الأشخاص بدون شهادات، فإذا كنت تعرف أشياء ويمكن أن تثبت أنك تعرفها وأنّك تعمل على تحسين مهاراتك من خلال التدريب عبر الإنترنت للقيام بالمهمة التي نحتاجها، فقد تم تعيينك”. نعتقد أنّ هذا التحول الهيكلي -من الدرجات العلمية إلى المهارات- يمكن أن يسدّ الفجوة الرقمية حيث زادت تكلفة التعليم الجامعي بنسبة 150 بالمائة على مدار العشرين عاماً الماضية.
لا تزال Infosys تُعيّن الكثير من المهندسين، ولكن لا يبحث كومار اليوم فقط عن “من يحل المشكلات” كما يقول، ولكن “من يجد المشكلات”، فالأشخاص الذين لديهم اهتمامات متنوعة -الفن والأدب والعلوم والأنثروبولوجيا- يمكنهم تحديد الأشياء التي يريدها الناس قبل أن يدركوا ذلك.
لقد وصلنا لمرحلة من التقدم التكنولوجي لم نعد بحاجة فيه لمعرفة كيفية البرمجة لإنشاء برامج جديدة، فبفضل الذكاء الاصطناعي يوجد الآن “برامج لا تحتوي على تعليمات برمجية”، حيث تقوم فقط بإرشاد البرنامج لتصميم بعض التعليمات البرمجية للتطبيق الذي تخيلته أو تحتاجه وسوف تتم برمجته لك، فإنّنا نشهد إضفاء الطابع الديمقراطي على البرامج ولذا يمكن للمستهلكين الآن أن يكونوا المبدعين، وهكذا سيأخذ الذكاء الاصطناعي وظائف الماضي، بينما يخلق وظائف المستقبل.
سيكون التعليم ما بعد الثانوي في المستقبل نظاماً بيئياً هجيناً لمنصات الشركة والكليات والمدارس المحليّة، والتي سيكون هدفها خلق فرصة إعادة تعلّم مهارات مختلفة جذريّاً والتي تعني أنّه يمكن تعيين موظف في مكتب الاستقبال بالفندق وتحويله إلى فني للأمن الرقمي، كما يمكن الاستعانة بوكيل للطيران وتحويله إلى مستشار بيانات.
تقوم اليوم شركات مثل Infosys أو IBM أو AT&T بإنشاء جامعات داخلية متطورة، فعلى سبيل المثال تقوم Infosys ببناء حرم جامعي بمساحة 100 هكتار في Indianapolis مُصمَّم لتزويد موظفيها وعملائها ليس بـ “تعلم الحالات” أي المواد التي قد يحتاجونها أو لا يحتاجونها لإتمام الوظيفة المطلوبة ولكن “التعلم في الوقت الحالي”، مما يوفّر المهارات الدقيقة اللازمة لأحدث مهمة وتحدي في الوقت الحقيقي.
في المستقبل، سيتم تنفيذ التعلم مدى الحياة (التعلّم المستمر) من خلال ما يمكن تسميته “التحالفات التكيُّفية المركبة”، حيث ستشترك Infosys أو Microsoft أو IBM مع جامعات مختلفة وحتى مع المدارس الثانوية، وسيتمكّن طلاب الجامعات من الحصول على دورات تعليمية في الوقت المناسب -أو القيام بالتدريب الداخلي- في الجامعات الداخلية للشركات، وسيتمكن موظفو الشركة من أخذ دورات في العلوم الإنسانية في حالة وجودها فقط في الجامعات الخارجية، وهكذا سيتمكن كلاهما من “التعلّم، والكسب والعمل” وكلّ ذلك في نفس الوقت، ولقد بدأت هكذا تحالفات بالفعل.