قوة العقلية (Mindset)

في تجربة طبية مثيرة قادها الطبيب الإيطالي فابريزيو بينيديتي على مجموعة من المرضى أجريت لهم جراحات معقدة في القفص الصدري  والتي تقتضي إحداث شقوق كبيرة في العضلات للوصول إلى القلب والرئتين. وبعد ساعة من انتهاء العملية يبدأ أثر التخدير بالاختفاء ويبدأ الإحساس بألم شديد.

الذي قام به الدكتور بينيديتي هو أنه قسّم المرضى الذين أجروا هذه الجراحة إلى مجموعتين وطلب من فريقه إعطاء المرضى مسكنات الألم ولكن بفرق بسيط بين المجموعتين. فقد تلقى مرضى المجموعة الأولى مسكن المورفين عن طريق طبيب جاء شخصياً إلى السرير وحقنهم به. أما المجموعة الثانية فقد تم وضع نفس كمية ونوعية المسكن ضمن مضخة أتوماتيكية، ورغم تساوي كمية المورفين المعطى لكلا المجموعتين إلا أنّ استجابة المرضى كانت مختلفة بشكل كبير. فأفراد المجموعة الأولى تحدثوا عن تراجع كبير في مستوى الألم (من 8 حتى 3 على مقياس من 10) خلال ساعة، بينما أفراد المجموعة الثانية تحدثوا عن انخفاض طفيف في الألم (من 7.8 حتى 5.9 على نفس المقياس) وضمن نفس الفترة الزمنية.

هذه النتيجة فاجأت الدكتور بينيديتي وفريقه، فقرروا إجراء نفس التجربة على مرضى آخرين بأمراض مختلفة كالقلق وداء باركنسون والتوتر الشديد والنتائج كانت دائماً نفسها وبشكل متجانس وهي أنّه عندما يكون المريض على علم بأخذ جرعة المهدئ ويتوقع أثرها، تصبح المعالجة ذات تأثير كبير، ولكن عندما لا يكونوا على علم، فإن نفس المسكن ونفس الجرعة لا يحدث إلا أثراً ضئيلاً وفي بعض الحالات لم يحدث أي أثر على الإطلاق.

طبعاً هنا ربما يتبادر إلى ذهنك عزيزي القارئ، أنّ هذا أثر الدواء الوهمي (Placebo effect) الذي يتجسد عادة بالحبوب الفارغة أو الحبوب المحلاة، ولكن ما هو الدواء الوهمي حقيقةً؟ تقول الدكتورة آليا كْرَمْ الأستاذة المساعدة في قسم علم النفس في جامعة ستانفورد، إنّ البلاسيبو هو تجسيد قوي ومستمر ومتجانس لقدرة عقليتنا على توقع الشفاء وإجراء مايلزم داخل الجسم لتنفيذ ذلك. هذا سيقودنا إلى التساؤل المشروع وما هي العقلية Mindset التي تستطيع فعل ذلك؟ تبعاً للدكتورة كْرَمْ، “فإن العقلية هي حالة عقلية أو يمكن أن نطلق عليها حرفياً إحدى إعدادات الدماغ، عدسة أو إطار في الدماغ نرى العالم من خلاله، وهي ليست شيئاً غير منطقي، ولكن تلعب دوراً محورياً في تقرير وضعنا الصحي”.

أما الدكتورة إيلين لانغر، أستاذة علم النفس في جامعة هارفرد، فقد افترضت إنّ إجراء التمارين الرياضية واستجابة الجسد لها، هو أيضاً تجسيد لفكرة البلاسيبو وأنّ الجسد يستجيب للرياضة في حال كان واعياً لها. ولاختبار ذلك قام مجموعة من الباحثين بإجراء تجربة على 84 من عاملات الفنادق، يعملون في 7 فنادق مختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تمّ اختيارهم لأنّهم يعملون على أقدامهم طوال النهار، ويستخدمون طيفاً واسعاً من عضلاتهم، ويحرقون كميّة كبيرة من السعرات الحرارية من خلال أدائهم لمهامهم اليومية في العمل (160 -200 سعرة في الساعة) ولكن الملفت أنّ هؤلاء السيدات لم ينظروا لعملهم من هذا المنظور، وعندما تم سؤالهم إن كانوا يمارسون أي نوع من التمارين الرياضية بانتظام، فقد نفى ثلثيهنّ ذلك، وعندما تمّ وضع مقياس من 0-10 وتمّ سؤالهم أن يقرروا نسبة التمارين التي يقومون بها في حياتهم، فقد اختار ثلثهنَّ الرقم صفر، وبناء على ذلك، تساءل الفريق البحثي إذا ما كان بإمكانهم تغيير عقليتهم ومنظورهم لعملهم. فتمّ فحصهم وإجراء قياسات طبية شاملة لهم كالوزن وضغط الدم ونسبة الدهون ورضاهم عن عملهم، ثمّ تمّ تقسيمهم إلى مجموعتين خضعت الأولى لمحاضرة مدتّها 15 دقيقة فقط تم خلالها شرح الأثر الرياضي للعمل الذي يقومن به، والذي يساوي حوالي 30 دقيقة من الجهد الرياضي المكثّف حسب التعريف الطبي لذلك، وتم التأكيد خلال هذه المحاضرة القصيرة على فكرة أنهم يجب أن يتوقعوا الاستفادة من فوائد هذه التمارين ويحسّونها في أجسادهن.

وبعد هذه المحاضرة، عاد الفريق البحثي لزيارتهنّ بعد 4 أسابيع، وتم إجراء نفس القياسات، وكما هو متوقع، المجموعة الثانية التي لم تحضر المحاضرة لم يتغير فيها أي شيء، أمّا أعضاء المجموعة الأولى فقد خسروا كثيراً من الوزن وانخفض لديهن ضغط الدم بشكل ملحوظ، كما انخفضت نسبة الدهون في أجسادهنّ.  ليس ذلك فحسب، بل أيضاً ارتفعت نسبة رضاهنّ عن عملهنّ. وكان ذلك مفاجئاً جداً لفريق البحث. فمحاضرة لمدة 15 دقيقة فقط غيرت قواعد اللعبة بشكل كبير محققةً آثاراً على الصعيد الصحي والنفسي دون أي  تغيير في السلوك اليومي المعتاد.

ربما ستقول عزيزي القارئ كيف عرفوا أنّ هؤلاء السيدات لم يغيرنّ سلوكهنّ وأصبحن يقمن بحركات إضافية أو ماشابه، كانت هذه الأسئلة نفس الأسئلة التي تواردت إلى أذهان أعضاء الفريق البحثي فقاموا أولاً بسؤال السيدات إن قمن بأي تغيير في طريقة عملهن، أو بدأن يبذلن جهداً إضافياً هنا وهناك. ولكن السيدات أكدنّ جميعاً أنّه لم يكن هناك أي تغيير.

ولكن ذلك لم يمنع الباحثين من التساؤل عن وجود علاقة مباشرة وآنية بين العقل والجسد، لذلك تابع الفريق البحثي مع فريق آخر من جامعة ييل من خلال بحث آخر لمعرفة جواب هذا السؤال، فقاموا بتجربة أخرى ملفتة. قام الفريق بعمل مخفوق الحليب Milk Shake وتم دعوة مجموعة عشوائية من الأشخاص ليتذوقوا العصير مقابل الحصول على 75 دولار على أن يكونوا بين 18-35 سنة من العمر ولا يعانون من مرض السكر ولا يوجد حالات حمل أو حساسية تجاه أي نوع من الطعام، ولكن خلال شربهم للعصير، سيكون كل واحد منهم موصول على جهاز لقياس الغريلين (هرمون الجوع) وهو الهرمون الذي يُفرز عندما لا نأكل لفترة من الوقت ويقوم بإرسال إشارات للدماغ للبحث عن الطعام وهو المسؤول عن إبطاء العمليات الحيوية للجسم في حال لم يوجد طعام. وفي حال دخل الطعام إلى الجسم، فتتضاءل نسبة هذا الهرمون في الجسم.

وبالعودة إلى التجربة، فقد تمّ تقديم العصير للمشاركين مرفقاً بمعلومات عنهوكانت كالتالي: بدون دسم وبدون سكر وبـ 140 سعرة حرارية فقط. وبعد أن شربوه تم ملاحظة انخفاض مستوى هرمون الجوع بشكل طفيف مرسلاً إشارة إلى أدمغتهم أن بعض الطعام دخل إلى الجسم. وبعد أسبوع تمّ دعوة نفس الأشخاص وتقديم مخفوق الحليب لهم مرفقاً بمعلوماته، وهي 620 سعرة حرارية، و30 غ دهون، و60 غ سكر. وبعد انتهائهم من شرب العصير، أشارت الأجهزة إلى انخفاض كبير في مستوى الهرمون في دمهم بنسبة وصلت إلى 3.1 أضعاف من النسبة التي حصلت خلال التجربة الأولى.

وطبعاً، هذه النتائج تبدو منطقية لأي خبير تغذية، فنسبة انخفاض هرمون الجوع تتناسب طرداً مع كمية السعرات الحرارية الداخلة، ولكن الذي حصل في هذه التجربة أنّه وفي كلا التجربتين فقد تم تقديم نفس العصير تماماً وكان يحوي 380 سعرة حرارية و13 غ من الدهون، و 44 غ من السكر.

ما الذي نستنتجه من كل ما سبق، ومن خلال التجارب المذكورة؟

إنّ ما نؤمن به، ونعتقده، ونتوقعّه، هو مايهم. في حالة الطعام لم يهم كمية السعرات الحرارية التي نتناولها، بل ما يهم هو ما نعتقد أننا نأكله، وهذه الفكرة يمكن استثمارها بشكل ذكي للتحكم بأنفسنا والعمل على تحسين الوزن.

يأتي هنا السؤال أنه وبما أنّ لعقليتنا هذه القدرة الرهيبة على التأثير في أجسادنا، كيف يمكن أن نغيرها وجعلها تعمل لصالحنا؟

منذ عدة أعوام يتمّ إجراء مئات التجارب والأبحاث حول هذا الموضوع والتي تركز على العلاقة بين العقل والجسد، وقد خلصت هذه التجارب بنتائج رائعة عن تمكيننا من تغيير عقليتنا (منظورنا للأمور) Mindset واستثمار ذلك في إحداث تغييرات إيجابية في حياتنا، ولعل أحد أهم وأمتع الكتب التي نشرت في هذا المجال هو كتاب العقلية Mindset للدكتورة كارول دويك، والذي أنصح بشدة بقراءته إذ كنت تود معرفة تطبيقات نتائج هذه الأبحاث، وسأقوم أيضاً بنشر المزيد من المعلومات حول هذا الموضوع في المستقبل القريب.

مترجم بتصرف

مقالات أخرى يمكن أن تهمك

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

%d مدونون معجبون بهذه: