إعادة التفكير

by Lobana

ربما سمعتَ أنه إذا وضعت ضفدعًا في قدر به ماء مغلي، فسوف يقفز على الفور، لكن إذا وضعته في ماء فاتر، ثم سخنته ببطء، فلن ينجو الضفدع؛ حيث أنّ مشكلة الضفدع الكبرى هي أنه يفتقر إلى القدرة على إعادة التفكير في الموقف، فلا يدرك أنّ الماء الدافئ أصبح فخًا للموت حتى يفوت الأوان.
قد يكون البشر أذكى من الضفادع، لكن عالمنا مليء بالأواني البطيئة الغليان؛ فكر في مدى بطء استجابة الناس للتحذيرات بشأن الجائحة أو تغير المناخ أو أن الديمقراطية في خطر؛ حيث نفشل في التعرف على الخطر لأننا مترددون في إعادة التفكير في الموقف.


العناد وإعادة التفكير
نعاني من عدم إعادة التفكير ونعانده في جميع أنواع المواقف، وتدور توقعاتنا في أن تستمر مكابحنا في العمل، حتى تفشل أخيرًا على الطريق السريع، حيث نعتقد أنّ سوق الأسهم سيستمر في الصعود حتى بعد أن نسمع عن فقاعة العقارات؛ ولكن المثير أنّ استراتيجية إعادة التفكير لا تُشكل عقبةً في كل جزء من حياتنا؛ فيسعدنا تجديد خزانات الملابس لدينا وتجديد مطابخنا؛ ولكن عندما يتعلق الأمر بأهدافنا وهوياتنا وعاداتنا، فإننا نميل إلى التشبث بها. وفي عالمنا سريع التغيُّر، فإن ذلك يشكل تحديات كبيرة. 

تعلمت -بعد العديد من تجاربي ومن الوقوع في أوانٍ بطيئة الغليان- أنّ الذكاء لا يساعدنا على الهروب؛ وفي بعض الأحيان، يحبسنا لفترة أطول، حيث أنّه كونك جيد في التفكير يمكن أن يجعلك أسوأ في إعادة التفكير، وهناك دليل على أنّه كلما كنت أكثر ذكاءً، زادت احتمالية وقوعك ضحية تحيز “أنا لست متحيزًا”، حيث يمكنك دائمًا العثور على أسباب لإقناع نفسك بأنك على الطريق الصحيح.


الانحياز لمسار عمل خاسر
يحدث الانحياز لمسار عمل خاسر -وهو نوع من الخطأ- عندما تقوم باستثمار أولي للوقت أو المال، ثم تكتشف أنّه ربما كان خيارًا سيئًا، ولكن بدلاً من إعادة التفكير فيه، فإنك تضاعف وتستثمر أكثر، حيث تريد الإثبات لنفسك وللآخرين أنك اتخذت قرارًا جيدًا.

يفسر ذلك الكثير من الأمثلة المألوفة لانهيار الأعمال كبلوكباستر وبلاك بيري وكوداك، حيث استمر قادة هذه الشركات في فيّ أوانيهم البطيئة الغليان، وفشلوا في إعادة التفكير في استراتيجياتهم. يشرح هذا الانحياز لماذا قد تكون عالقًا لفترة طويلة جدًا في وظيفة بائسة، أو لماذا من المحتمل أنك انتظرت طاولة لفترة طويلة جدًا في مطعم أو لماذا قد تمسّكت بعلاقة سيئة لفترة طويلة بعد أن شجعك المقربون إليك على المغادرة. 

من الصعب الاعتراف بأننا كنا مخطئين وأننا ربما أضعنا سنوات من حياتنا، لذلك نقول لأنفسنا “إذا حاولت بجهد أكبر، يمكنني تغيير ذلك”. 

تُظهر التجارب أن الأشخاص الشجعان هم أكثر عرضة للإفراط في لعب ألعاب الكازينو وأكثر عرضة لمواصلة محاولة حل الألغاز المستحيلة، وقد وجد الباحثون أيضًا أن أكثر متسلقي الجبال ثباتًا هم الأكثر عرضة للموت في الرحلات الاستكشافية، لأنهم مصممون على القيام بكل ما يلزم للوصول إلى القمة. 

هناك خيط رفيع بين المثابرة البطولية والحماقة العنيدة، فمهم تمييز أنّ عبارة “لا تستسلم أبدًا” لا تعني أن تستمر في فعل الشيء الذي فشل، بل يعني ألّا تنغلق على نفسك في مسار واحد ضيق، والبقاء منفتحًا لتوسيع أهدافك، فالهدف النهائي يجب أن يكون العودة لأسفل الجبل، وليس فقط الوصول إلى القمة، ويمكن أن تزودك أهدافك برؤية نَفَقيّة الطابع، مما يؤدي إلى إعاقة إعادة التفكير في الموقف.


حبس الهوية
وليست الأهداف فقط هي التي يمكن أن تسبب هذا النوع من قصر النظر، إنما هويتك أيضًا. أي من أنت وماذا تحب أن تكون، فتجد في علم النفس مصطلح لهذا النوع من الفشل في إعادة التفكير – يسمى “حبس (انغلاق) الهوية”، وهذا عندما تستقر قبل الأوان على الإحساس بمن أنت وتغلق عقلك على الذوات (الخيارات) البديلة. 

ربما تكون قد عانيت من حبس الهوية؛ فربما كنت مرتبطًا جدًا بفكرة مبكرة عن المدرسة التي ستلتحق بها، أو نوع الشخص الذي ستتزوج منه، أو المهنة التي ستختارها.

يشبه الانغلاق على خيار واحد للهوية إلى حد كبير فكرة اتباع نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الذي يمنحك الاتجاهات الصحيحة ولكن إلى الوجهة الخاطئة، وتشير الأبحاث إلى أنه بدلاً من الانغلاق على هوية واحدة، من الأفضل أن نجرب مجموعة من الخيارات المحتملة.


الترسيخ المعرفي
في أحد تجاربي التدريسية؛ قمت بتدريس فصل دراسي حول أهمية إعادة التفكير؛ وإذ بأحد الطلاب قال لي: “أنت لا تتبع مبادئك الخاصة”؛ وكما يقولون إنّ التعليقات هدية، ولكن فعلاً تساءلت بعد ذلك حول كيفية إعادة التفكير في ذلك، فكنت أقوم بتدريس نفس المادة، بنفس الطريقة، عاماً بعد عام؛ ولم أرغب في التخلي عن أداء كان ناجحًا. يبدو أنه حتى العادات الجيدة يمكن أن تقف في طريق إعادة التفكير.

وهذا ما يطلق عليه “الترسيخ المعرفي”، حيث تتعثر في الطريقة التي كنت تفعل بها الأشياء دائمًا، ومجرد التفكير في إعادة التفكير جعلني في موقف دفاعي. ولكن تصادف أنني كنت أقوم ببعض الأبحاث حول تنظيم المشاعر في ذلك الوقت، وكان ذلك مفيدًا، فعلى الرغم من أنه لا يمكنك دائمًا اختيار المشاعر التي تشعر بها، إلا أنه يجب عليك اختيار المشاعر التي تبقيها داخلك وتلك التي تعبر عنها، وهذا ما فعلته؛ بدلاً من الدفاع، جربت أن أكون فضولياً، وتساءلت ماذا سيحدث لو أصبحت طالباً؛ وتخليت عن خطتي التدريسية ليوم واحد من الفصل، ودعوت الطلاب لتصميم جلستهم الخاصة.

في السنة الأولى، كتبوا رسائل إلى ذواتهم الجدد، حول ما يرغبون في إعادة التفكير فيه أو معرفته عاجلاً. في العام التالي، ألقوا محادثات عن شغفهم، حيث كان لدى كل منهم دقيقة واحدة لمشاركة شيء يحبه أو يهتم به بعمق؛ والآن، يقدم جميع طلابي محادثات شغوفة لتقديم أنفسهم إلى الفصل.

أعتقد أن المعلمين الجيدين يقدمون أفكارًا جديدة، لكن المعلمين العظماء يقدمون طرقًا جديدة للتفكير. لم أكن أدرك حقًا كم كان على طلابي أن يُعلّموا بعضهم بعضًا، ويعلموني حتى تخليت عن موقعي المسيطر وأعطيتهم زمام الأمور؛ ومنذ ذلك الحين وأنا أضع تذكيرًا سنويًا في التقويم الخاص بي لإعادة التفكير في ماذا وكيف أُدرس.


إعادة الاختبار بشكل دوري
يمكنك اتخاذ فكرة (إعادة التفكير) على أنّه فحص فقط كالذي تُجريه عندما تذهب إلى الطبيب لإجراء فحص سنوي مع أنه لا يبدو أن هناك شيئًا خاطئًا، ويمكنك أن تفعل الشيء نفسه في الأجزاء المهمة من حياتك. فحص مهني للنظر في كيفية تغيير أهدافك. إعادة فحص عاداتك. فحص الهوية للنظر في كيفية تطور قيمك. لا يجب أن تغير إعادة التفكير آراءك ومفاهيمك، حيث إنها تعني فقط قضاء بعض الوقت في التفكير والبقاء منفتحًا على إعادة النظر.

السمة المميزة للحكمة هي معرفة متى تجرؤ ومتى تتوقف، ومتى تسدل الستار على هوية قديمة، ومتى تفتح آفاق هوية جديدة، ومتى تبتعد عن بعض العادات القديمة وتبدأ في تسلق جبل جديد. يمكن أن يثقل ماضيك كاهلك، ويمكن لإعادة التفكير أن تحررك.


إعادة التفكير ليست مجرد مهارة لإتقانها على الصعيد الشخصي
إعادة التفكير قيمة نحتاج إلى تبنّيها ثقافيًا، حيث نعيش في عالم يُقدّم الثقة على الكفاءة، مما يجعلنا نميل لتفضيل راحة الاقتناع بما نراه على عدم الارتياح المرتبط بالشك والتفكير النقدي، والذي يجعلنا نتهم الأشخاص الذين يغيرون رأيهم بالتقلب، في حين أنهم في الواقع يكونون في رحلة التعلم؛ لذلك دعونا نتحدث عن كيفية جعل إعادة التفكير هي القاعدة. نحن بحاجة إلى تكريسها وجعلها نموذجاً دائماً في حياتنا. 

إن أفضل طريقة لإثبات نفسك في عالم اليوم هي تحسين نفسك؛ فالقادة الضعفاء يُكممون أفواه منتقديهم ويجعلون أنفسهم أضعف، بينما القادة الأقوياء يشركون منتقديهم ويجعلوا أنفسهم أقوى؛ ويمنحك التواضع الواثق الشجاعة لتقول “لا أعرف” بدلاً من التظاهر بالحصول على جميع الإجابات، ولقول “كنت مخطئا” بدلاً من الإصرار على أنك على حق، ويشجعك على الاستماع إلى الأفكار التي تجعلك تفكر مليًا، وليس فقط الأفكار التي تجعلك تشعر بالرضا، وأن تحيط نفسك بالأشخاص الذين يتحدون عملية تفكيرك، ليس فقط أولئك الذين يتفقون مع استنتاجاتك.

وفي بعض الأحيان يقودك ذلك إلى تحدي استنتاجاتك، مثل قصة الضفدع الذي لا يستطيع البقاء على قيد الحياة في القدر البطيء الغليان؛ فقد اكتشفت مؤخرًا أن هذه خرافة، فإذا قمت بتسخين الماء، فسوف يقفز الضفدع للخارج بمجرد أن يصبح دافئًا بشكل غير مريح. بالطبع يقفز، إنه ليس أحمق.


المشكلة ليست في الضفدع، بل نحن..
بمجرد أن نقبل القصة على أنها حقيقية، لا نكلف نفسها عناء التفكير مرة أخرى؛ ولكن ماذا لو كنا مثل الضفدع، مستعدين للقفز إذا كان الماء دافئًا جدًا؟ نحن بحاجة إلى إعادة التفكير بسرعة.


ملخص بتصرف لحديث تيد للرائع آدام غرانت

مقالات أخرى يمكن أن تهمك

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

%d مدونون معجبون بهذه: