في ربيع العام 2006، وبمناسبة زيارة وفد أجنبي رفيع إلى سورية؛ طُلِبَ مني تقديم محاضرة (عرض تقديمي) عن سورية وجامعة دمشق أمام هذا الوفد.
وفعلاً اجتهدت بتحضير عرض يليق بسورية وجامعة دمشق وقدمته أمام الوفد وبحضور بعض من كبار المسؤولين السوريين وحشد من المدعوين. قدّمتُ سورية بأبهى حلّة وأظهرت جامعة دمشق كأم جامعات الدنيا ونال العرض استحساناً كبيراً.
وبعد انتهاء مراسم الحدث تقدّم مني أحد المسؤولين السوريين الكبار آنذاك والذي يعرفني جيداً ووضع يده على كتفي مربّتاً وقال لي بالحرف تلك الكلمات التي لن أنساها: “أحسنت يافادي، الله يعطيك العافية. جهد جبار وعمل ببيض الوجه ولكن” واضعاً عينيه في عينيّ بنظرة تفيض أُبوّة ” سورية التي تكلمت عنها اليوم تساوي 0.01 من سورية ككل. يا ابني، إذا أردت أن تعرف سورية بحق فاذهب إلى ريف حلب، اذهب إلى ريف دير الزور، اذهب إلى ريف اللاذقية وطرطوس، اذهب إلى ريف إدلب وحماه والحسكة” وتركني في حالةٍ من الذهول والارتباك وغادر.
في الأيام التي تلت ذلك اليوم، لم تغب كلماته عني لحظة واحدة وبدأت تتشكل داخلي رغبة جامحة لزيارة هذه الأماكن التي لم يسبق لي أن زرتها أو عرفت أي شيء عنها لأعرف مالذي كان يقصده.
وشاءت ظروف عملي آنذاك أن أسافر لعدة محافظات سورية بحكم العمل وأقضي فيها بعض الأيام، كما قمت بشكل شخصي بقضاء أيام إضافية في زيارة أرياف المحافظات المذكورة والتحدث مع ناسها ويالهول مارأيت ويالهول ماسمعت. كان عصياً عليّ أن أستوعب أنني ومن تحدثت معهم أبناء نفس البلد ونحمل الجنسية نفسها. كان صعباً أن أرى بأم عيني الوجه الآخر لسورية أو بالأحرى كما قال لي ذلك المسؤول، الجزء الأعظم من سورية.
في الحقيقة، تذكرت ذلك وأنا أشاهد بالأمس لأول مرة الفيلم الوثائقي “عالشام عالشام” للراحل نبيل المالح والذي نُشرَ في العام 2006 أيضاً. فالبطالة والفقر المدقع والجهل وقلة التعليم وعدم الاهتمام وعدم وجود أدنى أنواع الخدمات وعدم وجود أمل وطموحات لدى سكان تلك المناطق هو المسيطر على الوضع هناك.
وخلال العامين التاليين ومن خلال زياراتي للعديد من المدن وقرى الريف السوري بالإضافة لما كنت أراه من فساد مُقَنَّع وذكي أمامي كل يوم في واحدة من أرقى مؤسسات الدولة، بدأت تتولد بداخلي قناعة بأن تفجّراً ما لهذه الحالة لابد أن يحدث لأنه لايُعقل أن تبقى الأمور على هذه الشاكلة.
بدأت أُسرّ لأصدقائي المقربين وبسرية تامة -لما يحمله الحديث في هذه الأمور من أخطار نعرفها جميعاً- بأنني أعتقد أن شيئاً ما سيحدث. هذه الطاقات الكامنة والمكبوتة ستتفجر بوجه واقعها وهذا منطق الأمور وطبيعة سيرورتها.
كنا نحن الشباب -وأعتقد الجميع وليس الشباب فقط ولكن الآخرين لم يخبروني آنذاك- نرى مايحدث أمامنا من فساد بكافة أشكاله وعلى جميع الأصعدة ففي البيع والشراء والأجار والدَّيْن والحقوق والواجبات وجميع المعاملات إن كان في القطاع العام أو الخاص.
كنت أقول لأصدقائي: كم من ظالم ظلم الناس وهم صامتون؟ كم من أخ اغتصب حقوق إخوته وأخواته و ملأ صمتهم الدنيا صدىً من القهر؟ كم من ابن/ة قتل أباه أو أمه أو أخاه أو أخته لكن دون دم، أي بالظلم والقهر والطغيان؟ كم من سوري/ة خسر عمله ظلما؟ وكم من سوري/ة ضاعت حقوقه استبداداً؟ وكم وكم وكم؟ وأُكمِلُ حديثي قائلاً أن الدم الذي سُفِكَ معنوياً سيَنفرُ بوجهنا عاجلاً أم آجلاً. آهات الشباب وتحطّم أحلامهم وخيباتهم ستتفجر في وجوهنا. طبعأ لم يكن يخطر لي ولا لسامعيّ أن الدم الذي سينفر سيغرقنا لهذه الدرجة وأن انفجارات آهاتنا ستدمرنا شر تدمير إلى هذه الدرجة.
نحن صنعنا أزمتنا بأيدينا، طبخناها على نار هادئة وماحصل هو نتيجة طبيعية لما كان. وحتى لأصحاب نظرية المؤامرة فلم يكن لأحد أن يتآمر علينا لو أننا لم نسمح بذلك. المشكلة من عندنا، وعلينا الاعتراف بذلك والتوقف عن لوم لآخرين لما يحصل معنا، فالآخرون كما كل شعوب وأمم الأرض على مر التاريخ تسعى وراء مصالحها وتنقضّ على الضعيف لتعزيز وجودها وتقوية كيانها ولا استثناء في حالتنا فماضينا المجيد وحضاراتنا العريقة لن تشفع لنا وتردّ عنا طموحاتهم و أطماعهم، كما أنها لن تُطعِم سورياً واحداً جائعاً ولن تُوظّف شاباً/ة باحثاً عن عمل.
أذكر ومع بدايات جرحنا السوري كانت الجملة التي سمعتها من الناس من كافة الأطياف ’مؤيدين’ و’معارضين’ و’رماديين’ هي “أزمتنا أزمة أخلاق” وأعتقد أن هذه الجملة مازالت تحتل مكانة كبيرة على ألسنة السوريين على اختلاف مشاربهم. ولايحيد ذلك عن الحقيقة والواقع.
وكما أننا كنا نحن السبب، فإننا نحن الحل!
فبعد كل الاستقطاب والتناحر وإقصاء الآخر والتخوين والقتال ونزع الشرف والسوريّة عن الآخر وبعد كل هذا الدم وهذا الدمار وهذا التشريد وهذا التهجير وهذه الشرذمة والفُرقة، وبعد هذا الانهيار الاقتصادي المروع الذي يَفتِكُ بأهلنا في الداخل السوري، ماذا بعد؟
أكتب هذه السطور وأفكر في الملايين من أمثالي الموجودين خارج سورية يغمرنا الحزن والهم ويعتصرنا الألم. فرغم وجودنا في أكثر الدول تقدماً ورفاهيةً إلا أن ذلك غير معكوس في نفسياتنا وفي أدائنا. كما أكتب وأفكر في الملايين من السوريين في الداخل الذين يعانون الأَمَرَّيْن ويعيشون واحدةً من أقسى وأبشع مآسي الإنسانية التي وصلت بمعاناتهم إلى لقمتهم اليومية وأبسط حقوقهم.
بالمختصر، لا يوجد منّا مَن هو مرتاح أو مبسوط؛ ماذا نريد بعد؟ هل نتابع هذه المسيرة؟ وهو خيارٌ مازال متبعاً حتى الآن! أم نتبع الخيار الذي من خلاله نستطيع إعادة بناء سوريتنا من جديد؟
رغم أن الخيار الأول هو المسيطر حالياً إلا أن الخيار الثاني آتٍ لامحالة، فهذه سنة الكون، ولنا في تاريخ الأمم والشعوب خير دلائل. يبقى أن توقيت تنفيذه بأيدينا رغم تعقيد وتشابكات الوضع الراهن.
إن الانتقال لحالة الوحدة والبناء يحتاج منا أن نتحمل جميعاً المسؤولية عما حدث ونتحمل مسؤولية البناء من جديد. نحن جميعاً سوريون بغض النظر عن معتقداتنا وآرائنا ولايحق لأحد نزع ذلك من أحد لمجرد اختلافه بالرأي أو لأنه يرى أن سورية يجب أن تُحكم بطريقة أخرى أو أشخاص آخرين والعكس بالعكس. إن اختلاف الآراء وتنوعها مصدر قوة الشعوب والأمم فبها تدفع عجلة التطوير إلى الأمام عندما تتوفر الإرادة الصلبة والنية الصادقة للبناء تحت سقف قانون لمستقبل سوري لااستثناءات فيه.
لا خيار أمامنا لتقوم لنا قائمة من جديد إلا أن نضع أيدينا بأيدي بعض ونسمح ببنية دستورية للعمل والبناء يُحاسب من خلالها كل من أخطأ ولندعهم يدافعوا عن أنفسهم كما يريدون أمام المختصين بذلك، ونلتفت نحن سوية للبناء بيد واحدة. صحيح أن ذلك صعب والعفو عن ماحدث يحتاج لعزيمة أنبياء، إلا أن الخيار المعاكس أصعب وثمنه أغلى وربما لم نعد قادرين على دفعه مع الحِفاظ على انسانيتنا وكرامتنا.
3650 يوماً مرّوا علينا ونحن على هذا الحال، من كان عمره 15 عاماً أصبح اليوم 25 وككل إنسان كان له أحلامه وطموحاته التي طحنتها الحرب. يتمزق قلبي وقلوب الملايين ونحن نرى أحلام الجيل الشاب تتشظّى أمام أعينهم وليس بيدهم حيلة. شباب لو استُثْمِرَت طاقاتهم ووضعت في مكانها الصحيح لشققنا طريقنا بين الأمم. لازلنا نستطيع إن أردنا.
3650 يوماً مروا ولم نرَ حلاً يمثلنا. لم نشهد أحداً يعمل لمصلحتنا. لم يُترك مصطلحٌ لكيانٍ قانوني إلا وتم إنشاؤه وماالنتيجة؟ مزيدُ من كلّ سيّء. كل كيان ومن جميع الأطراف يعمل لمصلحته الضيقة فقط ومصلحة الناس مركونة جانباً.
نحتاج شيئاً مختلفاً، نحتاج حلاً يرفق بنا وينظر لكياننا ولأحلامنا ولطموحاتنا. لنا دور في تحقيق ذلك من خلال اتباع عقلية التسامح والعودة للبناء معاً والتعامل مع الماضي بلغة مختلفة والتركيز على المستقبل؛ ولن أقول هذا نداء لعله يصل إلى أحد ما أو لعل أحداً ما يستجيب لأنه لن يستجيب أحد، بل سأبدأ بنفسي وأقول أنني أعمل لمستقبل وبناء سورية مع كل سوري.
وسأترك الماضي للمختصين فيه، وأنني تجاوزت كل إساءة وظلم وتهجير طالني وطال عائلتي، وأعمل الآن مع مجموعة من الأصدقاء الرائعين على مشروع لتمكين الشباب السوريين وتدريبهم وتأهيلهم لتشكيل قوة عمل ضاربة تستطيع ليس الاعتماد على نفسها اقتصادياً وحسب بل ودعم من حولها تتبنى جميع القيم الإنسانية ومقومات المجتمع المدني الذي نحلم به لسوريتنا في المستقبل، وهذه دعوة لكل من يود الانضمام والمساعدة.
ودمتم ودامت سورية بخير.